مقدمة الكتاب
مجدداً تقف الحكومة العربية أمام تحدي التكنولوجيا وكيفية الاستفادة منها وتطويعها من أجل تحديث العمل العام وتقديم خدمة أفضل للمواطن ومؤسسات الأعمال. ولكن هذه المرة لم يعد الأمر مقتصراً على مجموعة من التطبيقات الجوّالة أو مواقع الوب والكتالوجات الالكترونية بل تعدّى ذلك إلى إمكانية إعادة هندسة التجربة الحكومية التعاملية مع المواطن برمّتها، وصولاً إلى إحداث ثورة في قطاعات الأعمال والتجارة والطب والنقل والصناعة والمال والأمن.
ومع وفرة الموارد الحاسوبية وتدنّي أسعارها وظهور الحوسبة السحابية وأدوات معالجة الداتا الضخمة، بدأت تقنيات الذكاء الاصطناعي تغزو كبرى شركات التقنية حول العالم والتي قامت بتطوير منتجات تعتمد على برامج وأنظمة التعلّم الآلي سواءً لإدارة أعمالها الداخلية أو لخدمة زبائنها وتعظيم أرباحها. وقد شهدنا العديد من التجارب الناجحة في السنوات القليلة الماضية منها ما يختص بقدرة الآلة على تعرّفها على الأشياء أو إمكانية فهمها للغة المحكيّة والتعامل مع النصوص بطريقة فعّالة وتحقيق خوارزميات التنبؤ نسبة عالية من الدقة وصولاً إلى الثورة التي نشهدها في عالم الروبوت وانترنت الأشياء والبلوك تشين.
الواضح في الأمر أن التجربة البشرية مع الآلة قد أخذت منحى تطورياً جديداً، بدايةً من التفاعل من خلال لوحة المفاتيح وعبر النقر على الماوس ثم عبر اللمس على الشاشة والآن يقدم الذكاء الاصطناعي طريقة جديدة للتفاعل مع الآلة عبر التحدث اليها مباشرة من خلال تقنيات تحليل الصوت والصورة وفهمها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن للحكومة استغلال هذه التطورات من أجل تقديم نموذج جديد للخدمة العامة تكون فيه الآلات والخوارزميات المحرّك الاساسي للعمل العام ويدعمها العنصر البشري في الأمور الأكثر أهمية والتي تحتاج إلى قرار وتدخّل إنساني؟
للجواب على هذا السؤال ينبغي دراسة إمكانيات الذكاء الاصطناعي وحدوده وكيفية توطينه في القطاعات العامة من دون تهديد القوى العاملة في وظائفها مع الأخذ بعين الإعتبار الكفاءات البشرية المتوفرة للحكومة والموارد المالية الممكن استثمارها في هذا المجال والأطر التنظيمية والهيكلية المفترضة للتعامل مع هذه المشاريع الجديدة.
أقدم في هذا الكتاب شرحاً واقعياً لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من دون تجميل تسويقي ولا استخفاف عن جهل، بل بما يكفي لكي يفهم القائد الحكومي والعاملين في القطاع العام أهمية هذه التطورات الجديدة وكيفية التعامل معها عبر بناء النماذج التجريبية الذكية ورسم السياسات العامة والاستراتيجيات المستقبلية الهادفة إلى إغناء التواصل الشعبي الحكومي وتحقيق رضا المواطن وتفعيل النشاط التجاري.
وعلى المدى الطويل، أعتقد أن عملية إدارة الذكاء وهندسته وحفظه وتعليمه للآلة سوف يغيّر المجتمع والحكومة على حد سواء وقد تكون له تداعيات إيجابية جداً في حال تم التعامل معها برؤية واضحة وبصيرة حكومية نافذة. بينما سيؤدي إهمال هذه التطورات التكنولوجية إلى تداعي صورة الدولة أمام منافسيها وضعف ثقة شبابها بها.
لقد بدأ العالم المتقدم يبني العقول المركزية الاصطناعية التي سوف تحدد لنا ماذا نشتري وماذا نلبس وماذا نقرأ وماذا نشاهد وكيف نعالج انفسنا ونصنع أدواتنا، هذا التجميع المخيف للذكاء في أيدي مجموعة النخبة من الشركات والحكومات العالمية سوف يضع العرب في السنوات المقبلة أمام تحديات لا مثيل لها في الحكم والاقتصاد والمال والأعمال والانتاج وإدارة الثروة.
————————-